الدكتورة هويدا عزت تكتب: مصر القديمة.. دولة إدارة قبل أن تكون دولة معابد
مع افتتاح المصريين للمتحف المصري الكبير، الذي شهد حالة من البهجة والفخر على المستوى المحلي والدولي، يعود الحديث عن عظمة الحضارة المصرية القديمة من منظور جديد، فقد برهنت هذه الحضارة، ليس فقط من خلال آثارها ومعابدها الشاهقة، بل عبر منظومة إدارية وتنظيمية متكاملة، سبقت عصرها بقرون في تطبيق مبادئ الإدارة والتنظيم، مؤكدةً بذلك أن مصر كانت دولة “إدارة” قبل أن تكون دولة “معابد”.
لقد عرف المصريون القدماء مبادئ الإدارة العامة منذ آلاف السنين، حيث وُجدت وثائق ونقوش تسجل بدقة تفاصيل العمل الحكومي، وتُظهر تقسيمًا وظيفيًا واضحًا، بدءًا من منصب الوزير، مرورًا بالكُتاب والمسؤولين عن الضرائب، وانتهاءً بعمال الحقول ومشرفي المخازن، في دلالة واضحة على تطور إداري غير مسبوق.
ولعل ما يُثير الإعجاب أن تلك الإدارة لم تكن عشوائية، بل محكومة بقواعد صارمة ونظام بيروقراطي فعال ساهم في استقرار الدولة لفترات طويلة، ما يبرهن أن المصري لم يكن مجرد صانع للحضارة، بل مهندس لها ومخطط لحفظها واستمرارها.
ويجسد المتحف المصري الكبير هذا الجانب المذهل من حضارتنا، فهو ليس مجرد متحف، بل نافذة على التاريخ، بما في ذلك التاريخ الإداري والتنظيمي لمصر القديمة، التي امتلكت أدوات الحكم والقيادة قبل أن يعرفها العالم بقرون؛ فمن خلال والبرديات والنقوش الجدرية على المعابد، يمكن للزائر أن يدرك أن “الإدارة” كانت جزءًا أصيلاً من الحياة اليومية، وأن قدماء المصريين أرسوا منذ أكثر من خمسة آلاف سنة قواعد دقيقة للحكم والتنظيم، ممهدين الطريق لما نعرفه اليوم كمبادئ للإدارة الحديثة.
وفي إطار تطبيق هذه الفلسفة الإدارية لدى المصريين القدماء، ظهر مفهوم “ماعت” الذي يعني “العدالة، الحق، التوازن”، لم يكن هذا المفهوم مجرد فلسفة دينية، بل كان أساسًا لنظام الحكم والاستقرار عندهم، حيث كان الفرعون يُنتظر منه أن يكون ضامنًا “للماعت”، وأن يُحافظ على النظام الاجتماعي، وتوزيع الموارد، وإنفاذ القانون، وهذا يُمثل إطارًا للقيم المؤسسية التي تتطلبها مؤسساتنا اليوم، والتي تقترب في جوهرها من مفهوم “الحوكمة المؤسسية” في الفكر الإداري المعاصر، والتي تقوم على الشفافية، العدالة، وضبط الأداء بما يضمن استمرارية المؤسسة واستقرارها.
وتشير الدراسات الحديثة إلى أن الحضارة المصرية القديمة مارست أشكالًا مبكرة من مبادئ الإدارة المعاصرة؛ ففي دراسة نُشرت في مجلة “Journal of Management History” عام 2018، يؤكد الباحث أن الإدارة المصرية اعتمدت على ثلاثة عناصر جوهرية تُعد اليوم أسس الإدارة الحديثة تقسيم العمل، التخطيط المركزي، ونظم المتابعة والرقابة، كما يشير باحثون آخرون إلى أن نظام الكتبة كان بمثابة أول نموذج موثق لسلسلة إدارية تعتمد على البيانات والسجلات في اتخاذ القرار، وهو ما يوضح كيف كانت المعرفة والإدارة مترابطة عمليًا في الدولة القديمة.
ومن هذا المنطلق، يُظهر النظام المصري أنه سبق عصره في نظم توثيق المعلومات؛ فقد كان السجل والكتاب الأساس لضبط الأداء والمساءلة، بما يشبه اليوم “نظم المعلومات الإدارية”؛ فالكاتب لم يكن مجرد موظف للتوثيق، بل كان العمود الفقري للنظام الإداري، مسؤولًا عن ضبط البيانات، حساب الضرائب، تسجيل الموارد، حصر العمال، ومتابعة الأداء، وقد تم تدريب الكتبة وفق نظام صارم يشبه “التأهيل الوظيفي” المعاصر من تعليم، تدريب، تقييم، وترقٍ، وهو ما يقرب مفهوم إدارة الموارد البشرية الحديثة إلى ممارساتهم العملية.
وما يؤكد ذلك هو أن الدولة المصرية القديمة لم تكن مجرد كيان يقوم على الملك والجيش والكهنة، بل كانت دولة مؤسسات حقيقية، وجهازًا إداريًا متماسكًا؛ فقد اعتمدت على هيكل تنظيمي واضح، يتصدره الفرعون، يليه الوزير، ثم حكام الأقاليم ورؤساء الإدارات والكتبة والمشرفون، وصولًا إلى العمال في الحقول والمخازن، وقد كشفت البرديات والنقوش الفرعونية عن تنظيم بالغ الدقة في جمع الضرائب، ومراقبة الإنتاج الزراعي، وإدارة الموارد، وتوزيع المخزون الغذائي، ولم يكن هذا النظام عشوائياً، بل اعتمد على قواعد مكتوبة وسجلات مفصلة وآليات رقابة صارمة، مما منح الدولة استقراراً على مدى آلاف السنين.
كما ظهرت قدرات التخطيط الإستراتيجي والتنفيذ الفعال في المشروعات الكبرى عند المصريين القدماء، مثل بناء المعابد والأهرامات، التي كانت بمقاييس عصرها بل وبمقاييس اليوم مشروعًا يفوق ما عرفه العالم من حيث الحجم والدقة والمتطلبات. ومع ذلك، نجح المصريون في إنجازها بفضل وضوح الأدوار، والتنظيم الدقيق، والتنسيق المحكم بين الموارد في الوقت المناسب.
وعند النظر إلى هذه الفترة من الحضارة المصرية القديمة، يمكن استخلاص عدد من الدروس الإدارية العميقة، فقد كشفت التجربة المصرية عن أهمية التنظيم الهيكلي، حيث وُجد هرم إداري واضح يبدأ من القيادة العليا وينتهي بالمستويات التنفيذية، بما يشبه في عصرنا الحالي ما نطلق عليه “الهيكل التنظيمي”.
ومن هنا، يمكن القول إن نظريات الإدارة المعاصرة لا تُعد وليدة القرن العشرين فقط؛ فقد تبين أن بعض مبادئها الأساسية؛ كالتخطيط، وتقسيم العمل، والرقابة، وإدارة الموارد والعمال، كانت تُمارس بالفعل في حضارات قديمة، وعلى الأخص في مصر القديمة، حيث أظهرت الأبحاث الأثرية والتاريخية وجود هياكل بيروقراطية وسجلات محاسبية وآليات لتنفيذ مشاريع ضخمة.
إن العودة إلى التجربة المصرية القديمة ليست مجرد قراءة للتاريخ، بل هي مفتاح إستراتيجي لفهم كيف استطاعت حضارة عمرها آلاف السنين أن تبني نظامًا إداريًا متكاملًا صمد أمام الزمن، هذه التجربة تمنحنا اليوم دروسًا عملية لا تقدر بثمن في الحوكمة، التخطيط طويل المدى، والإدارة الرشيدة للموارد. إنها دعوة لاستلهام عبقرية الأجداد لـتأسيس مستقبل مؤسسي مستقر، يثبت مجددًا أن مصر لم تكن فقط مهد الحضارة.. بل كانت أيضًا مهد الإدارة.
بقلم: الدكتورة هويدا عزت
كاتبة وباحثة في العلوم الإدارية وفلسفة الإدارة



