أهم الأخبارمقالات

د. جيهان رجب تكتب: حين يصبح «اللا محتوى» هو المحتوى: من المسؤول؟

الأربعاء 30 يوليو، 2025 | 1:59 م

في زمن تتحكم فيه الخوارزميات في الذوق العام، وتقاس قيمة الإنسان بعدد المتابعين وعدد الإعجابات، أصبحنا نعيش لحظة فارقة من الانحدار الثقافي، حيث باتت الفيديوهات الهابطة تتصدر المشهد وتكتسح ساحات التواصل الاجتماعي بلا منازع.

محتويات تعتمد على التفاهة، الجدل المفتعل، أو حتى الإيحاءات والسلوكيات غير الأخلاقية، تنتج خصيصا لا لشيء سوى لجذب أنظار جمهور يبحث عن التسلية، أو بالأحرى، يبحث عن أي شيء يكسر صمته الرقمي. فهل هذا المحتوى يعكس طبيعة المجتمع؟ أم أنه مجرد انحراف مؤقت سببه غياب البدائل؟

هل الجمهور ضحية يغوى بما يعرض عليه، أم أنه شريك كامل المسؤولية في صناعة هذا المشهد؟ وما موقف النخبة والمثقفين والعلماء من هذا الانحدار؟ وهل الصمت يعد تواطؤا غير معلن؟ العديد من المثقفين يرون أن ما يحدث ليس مجرد ترفيه هابط، بل حالة من تفريغ المجتمع من معانيه، وإلهاء مقصود عن القضايا الحقيقية. الدكتور جابر عصفور، رحمه الله، كان من أبرز من حذروا من “ثقافة التفاهة” وغياب المشروع الثقافي في مواجهة زحف الرداءة.

وصرح الإعلاميين بأن “منصات التواصل منحت الميكروفون لمن لا يستحق، وأصبح الضجيج يحجب الصوت العاقل”. فيما يرى بعض علماء النفس أن الاستهلاك المتكرر لهذا النوع من المحتوى يخلق تشوها إدراكيا لدى المتابع، ويضعف مع الوقت قدرته على التفاعل مع المحتوى الجاد أو المعرفي .. لا يقف الأمر عند الترفيه المؤقت؛ بل تمتد تداعياته إلى تشكيل الوعي الجمعي، وتقليص مساحة التفكير النقدي، وتعزيز قيم الشهرة الفارغة.

حتى التعليم تأثر، فصار بعض الطلاب أكثر دراية بأسماء صانعي المحتوى التافه من معرفتهم بأسماء رموز الفكر أو الأدب… ويكفي أن نعلم أن بعض الدراسات الحديثة في الإعلام الرقمي تشير إلى أن الأطفال والمراهقين باتوا يعتبرون صانع المحتوى الهابط “قدوة”، لأنهم يرون فيه نموذجا ناجحا يحقق الشهرة والمال بسهولة.

هذا لا يعكس فقط خللا في المنصات، بل أيضا في المنظومة التربوية والإعلامية التي تخلت عن دورها في التوجيه والتصفية… لكن رغم هذا المشهد القاتم، هناك أصوات لا تزال تقاوم.

مثقفون، معلمون، إعلاميون، وحتى بعض المؤثرين الشباب الواعين يحاولون كسر الدائرة، من خلال إنتاج محتوى معرفي، ساخر بنزاهة، أو موجه يرفع الوعي. غير أن هذه الأصوات تظل هامشية ما لم تلق دعما جماهيريا حقيقيا وتأييدا مؤسسيا وتنظيميا واضحا… ربما حان الوقت لأن نطرح سؤالا صريحا على أنفسنا كمجتمع … هل نحن متواطئون بصمتنا واستهلاكنا؟ وهل نريد حقا تغيير هذا الواقع؟ أم أن التسلية اللحظية أصبحت أهم من مستقبلنا الثقافي والإنساني؟

بقلم: ا.د جيهان رجب
أستاذ بجامعة عين شمس

د. جيهان رجب تكتب: حين يصبح «اللا محتوى» هو المحتوى: من المسؤول؟
د. جيهان رجب تكتب: حين يصبح «اللا محتوى» هو المحتوى: من المسؤول؟