د. نجلاء الجعفري تكتب: موقع «موروث».. كيف أنقذ طلاب صحافة بني سويف التراث من التفتت وأعادوا ربط الأجيال بهويتهم؟

لم يخطر ببالي أن جملة قصيرة سمعتها من الأستاذة الدكتورة نسرين حسام الدين، رئيس قسم الصحافة بكلية الإعلام – جامعة بني سويف، ستقلب بداخلي موجة من القلق والتردد. يومها أخبرتني ببساطة: “ستشرفين على مجموعة من الطلاب الذكور في مشروع التخرج”. لم أُبدِ اعتراضًا، فأنا أعلم جيدًا أن قرارات الدكتورة نسرين ليست عشوائية ولا تأتي عبثًا، وأن وراء كل تكليف بصمة من حكمتها المعهودة، حتى وإن لم تُفصح عنها فورًا. لطالما كانت نظرتها ثاقبة، ترى ما لا نراه، وتدرك ما يمكن أن نصبح عليه قبل أن نصل إليه. لذا، لم أناقش القرار، لكني في داخلي كنت أتساءل: هل سأقدر على التعامل مع فريق مختلف تمامًا عما اعتدت؟، هل سيكون التواصل معهم سلسًا؟ هل سيتقبلون الملاحظات؟ هل سأتمكن من كسب ثقتهم وإخراج أفضل ما لديهم؟، هل سأكون على قدر عالٍ من هذه المسئولية، كنت أظن – وربما تحكمني الصور النمطية – أن التعامل مع الشباب في هذه المرحلة لا يخلو من التحديات، خاصة إذا كانت العلاقة أكاديمية تقوم على التوجيه والتصحيح. شعرت للحظة أنني أدخل تجربة غير مأمونة، لكن شيئًا ما بداخلي كان يقول: ربما يحمل هذا التخوف مفاجآت جميلة… وقد كان.
في البداية، اعترفت لنفسي أن الأمر ليس سهلاً. بدا لي أن إشرافي على فريق من الذكور سيكون بمثابة تحدٍ حقيقي، فقد بدوا عنيدين إلى حد ما، لا يقتنعون بسهولة، ويتعاملون مع الملاحظات النقدية بالكثير من الجدل. ولعل ما صبّرني على تلك اللحظات التي بدت شاقة أحيانًا هو مشاركة أصدقائي الأعزاء أعباء الإشراف عليهم ووقوفهم بجانبي ومساعدتهم لي فهم من كانوا يدعموني بكلماتهم وتشجيعهم ومواقفهم النبيلة ورؤيتهم التفاؤلية: وهم الدكتورة دينا عبد الجواد المدرس بالقسم، والأستاذة فاطمة فتحي المعيدة بالقسم، وعلى وجه الخصوص الأستاذ طه صلاح المدرس المساعد بالقسم، الذي لم يبخل يومًا بكلمة طيبة أو نصيحة صادقة، وربما لأنه – مثلهم – ذكر، فقد كان الأقرب لفهم هذا “الفريق العنيد”، وساعدني أن أراهم من زاوية أكثر تسامحًا ورحمة.
مسألة الالتزام بالمواعيد مع هؤلاء الطلاب الستة كانت تمثل لي صداعًا دائمًا، خاصة مع تكرار جملتهم الشهيرة كلما طالبتهم بالتسليم: “اتقلي يا دكتورة علشان تستلمي شغل نضيف!”، وهي جملة لم تكن تطمئنني بقدر ما كانت تزيد من شكوكي، خصوصًا وأنني لم أواجه من قبل مثل هذا التأخير مع أي مجموعة أشرفت عليها، وكان أغلبها من الفتيات.
لكن مع مرور الوقت، اكتشفت أن وجود فريق مكوّن بالكامل من الشباب لم يكن عائقًا بل كان ميزة خفية. فبينما كانت بعض المجموعات الأخرى المكونة من الإناث وقليل من الذكور تعاني من صعوبات التنقل أو مواعيد السفر، كان هؤلاء الشباب دائمًا على استعداد للحركة، للبحث، للتنفيذ الميداني، بروح عملية وعزيمة لافتة، جعلتني أراجع حكمي المسبق تمامًا.
لن أنسى يومًا تلك المكالمة الهاتفية التي تلقيتها من أحد طلابي وهو محمد عبدالله، والذي قال لي فيها بحماس وإصرار: “يا دكتورة، أنا مستعد أركب الموتوسيكل وألف مركز ناصر حته حته بالساعات، علشان أوصل للمصادر اللي هتساعدني في التحقيق الصحفي الي قولتي عليه”. كانت جملته صادقة إلى حد أنني توقفت لحظة كي أستوعب ما قاله. شعرت حينها أن شيئًا ما قد تغيّر، ليس فقط في مسار تحقيق صحفي، بل في روحه كصحفي شاب بدأ يخطو أولى خطواته نحو المهنة بشغف. أحسست وقتها أنني، دون أن أدري، قد رسمت له أول الطريق، وزرعت فيه حب الكتابة الصحفية، وروح البحث والتحري.
كانت تلك اللحظة كفيلة بأن ترد لي يقيني بأن كل مشقة في الإشراف تستحق، إن كانت نتيجتها صحفيًا مستعدًا لأن يُضيء طريق الحقيقة مهما كلّفه الأمر.
وفي الحقيقة، ومع اقتراب موعد التسليم وضغط الوقت الشديد، بدأت ألاحظ شيئًا مختلفًا في سلوك هؤلاء الطلاب. كانوا في كل يوم بمكان جديد، ما بين المنصورة والقاهرة وأسيوط وبني سويف، لا يكلّون ولا يملّون، وكأن الشغف يحركهم.
كانوا يتجولون كلما سنحت لهم الفرصة، يبحثون، يصورون، يحللون، رغم أن معظمهم كان يعمل إلى جانب دراسته، ويجتهد في التوفيق بين مسؤولياته المختلفة.
أعترف أنني كنت قاسية أحيانًا. ضغطت عليهم كثيرًا، ووبختهم أكثر، ظنًا مني أن ذلك سيُعيدهم إلى المسار الصحيح، دون أن يدركوا أنني في داخلي كنت أحاول تقويمهم كما تعلمت من أساتذتي من علموني بقسم الصحافة كلية الإعلام جامعة القاهرة الذين غرسوا فيّ أن تعليم القيم والأخلاق أسمى من تعليم المهارات وحدها. لكن الحقيقة أن هؤلاء “المشاكسين” لقنوني درسًا لن أنساه: أن العبرة دومًا بالنهاية، وأن الصبر هو الفضيلة التي يجب أن يتحلّى بها كل من يتولى مسؤولية الإشراف على هذه الأجيال الجديدة، التي قد تختلف عنا كثيرًا، لكنها تحمل في داخلها طاقات تستحق أن تُمنح الفرصة لتتفتح على مهل.
ما زاد دهشتي وامتناني، أن هؤلاء المشاكسين فاجأوني برغبتهم في إنشاء موقع إلكتروني تحت عنوان “موروث”، يهدف هذا الموقع إلى إعادة إحياء التراث المصري وربط الشباب بهويتهم الثقافية. وهذا يعني أنهم يرون في الصحافة وسيلة حقيقية لصناعة الوعي وبناء الجسور بين الماضي والحاضر.
“موقع موروث” لم يكن مشروعًا عابرًا، بل استجابة واعية وعميقة للتحديات التي تواجه الأجيال الجديدة من تآكل الانتماء وضعف العلاقة بالهوية والمعرفة التي قد تكون مذبذبة بالتراث المصري. فقد اختار الطلاب أن يُعيدوا تقديم الآثار المصرية والعادات، والتقاليد، والحرف القديمة، والمأكولات، والأمثال الشعبية، وغيرها من مكونات التراث المختلفة، بأسلوب إعلامي حديث وبوسائط رقمية تجذب أبناء جيلهم.
فعليا طلاب هذا المشروع، أثبتوا لي – ولأنفسهم – أن الإعلام لا يقتصر على نقل الأحداث، بل يمكنه أن يكون جسرًا صلبًا بين الأجيال، وأن الصحفي الحقيقي لا يصنع محتوى فقط، بل يصنع وعيًا وهوية.
حصول طلاب مشروع “موروث” على جائزة أفضل تحرير صحفي لم يكن صدفة، بل جاء تتويجًا لجهد واعٍ وتمكن مهني واضح، فقد تنوعت الأشكال الصحفية التي استخدموها بين الأخبار، والتقارير، والفيتشرات، والحوارات، والتحقيقات والمقالات والتقارير الصحفية المصورة، بما يعكس فهمًا ناضجًا لطبيعة كل شكل صحفي، وقدرته على خدمة الرسالة الإعلامية للموقع.
هذا التنوع لم يُضف فقط ثراءً للمحتوى، بل أتاح للقارئ أن يعيش التجربة التراثية من زوايا متعددة، تارة من خلال سرد قصصي حيّ، وتارة عبر تقصي الحقائق، وأخرى من خلال التوثيق والتحليل.
لقد أثبت هؤلاء الطلاب لي — وهم (أحمد طه، أحمد عبدالمتعال، عبدالرؤوف محمد، فارس عزالدين، محمد عبدالله، موسى محمد) — أن الصحفي الحقيقي لا يُقاس فقط بقدرته على الكتابة، بل برؤيته، وإيمانه برسالته، ووعيه بدوره في تشكيل وعي مجتمعه. فقد تميز فريق موقع موروث بتناولهم العميق لقضايا التراث، واستخدامهم المتقن لمختلف الأشكال التحريرية، مما يعكس نضجًا مهنيًا مبكرًا يستحق الإشادة.
حقيقي لم يكن نجاحهم سهلًا، بل جاء نتيجة تعب ومثابرة وساعات طويلة من العمل والبحث الميداني، ورغبة حقيقية في تقديم مشروع يُحدث فرقًا. فشكراً طلابي الأعزاء، على تعبكم، وعلى مجهودكم، وحتى على ذلك الضغط والتوتر الذي سببته لكم، لأن كل ذلك كان جزءًا من الرحلة التي صنعت منكم فريقًا ناضجًا ومُلهمًا، يستحق الفخر.
في النهاية، يمكنني القول أن موقع موروث اختلف كثيرًا في معالجته لقضايا التراث المصري عن كثير من المجلات والمواقع الأخرى سواء المصرية أو العربية أو الأجنبية التي تناولت هذا المجال، إذ لم يقع في فخ التجزئة أو التناول السطحي، بل تبنّى رؤية شاملة تنظر إلى التراث بوصفه كُلاً مترابطًا يجمع بين المادي – كالمباني الأثرية، والحرف، والمواقع التاريخية – وغير المادي، كالعادات، والفنون الشعبية، والمأكولات. فقد آمن فريق الموقع أن الهوية لا تُختزل في منطقة أثرية أو حرفة تراثية أو رقصة أو أغنية أو طبق تقليدي، بل تُفهم وتُروى بوصفها نسيجًا حيًا من القيم، والقصص، والرموز المتوارثة. هذه النظرة الجامعة منحت موروث ميزة فريدة، وجعلته أكثر قدرة على بناء وعي ثقافي متكامل لدى جمهوره، في وقت باتت فيه أغلب المنصات الإعلامية تتعامل مع التراث بمنظور متقطع لا يُنصف عمقه ولا يلامس جوهره.
ومن هنا، تبرز ضرورة أن تحظى هذه التجربة الإعلامية الجادة بدعم فعلي من الجهات المصرية المعنية بالحفاظ على التراث المادي وغير المادي، مثل وزارة الثقافة، ووزارة السياحة والآثار، وجهاز التنسيق الحضاري، وغيرها من المؤسسات المختصة. فموقع موروث لا يقدم مجرد محتوى صحفي، بل يضطلع بدور حقيقي في ترميم الوعي العام، وربط الأجيال الجديدة بهويتهم الثقافية، مستخدمًا أدوات العصر لخدمة تاريخ الوطن. إن دعم هذا المشروع الواعد لا يعني فقط مساندة طلاب موهوبين، بل هو استثمار في ذاكرة الوطن ودرع في وجه النسيان والتغريب.