لطالما كنت أحب الاستماع إلى حكايات الناس في المواصلات، فهذا يحكي موقفا عصيبا مر به، وذاك يحكي حزنه بطريقة أقرب للفكاهة، وتلك تحكي إنجازات أبنائها متباهية بهم، وأخرى تشتكي من قسوة زوجها وتلعنه وتلعن معه كل الرجال، وغيرها من حكايات كثيرة جدا تضحكني وتبكيني في آن واحد.
أتذكر جيدًا أنه أثناء عودتي من الجامعة أحد الأيام، وأثناء ركوبي إحدى سيارات الأجرة لعودتي للمنزل، جلست بجواري سيدة شابة، ولكن ملامح وجهها وهيئتها الجسدية ترويان عكس ذلك، فخطوط الزمن تملأ وجهها، وعلامات الحزن تخيم على ملامحها وابتسامتها، ولكن عينها كان فيها شيء من الأمل الممزوج بالحزن والخوف، كانت ترتدي ثيابا رثة، على ما يبدو أنها كانت عائدة من يوم عمل طويل وشاق.
نظرت لي وللكتب التي أحملها في حالة إعجاب شديد، ثم قالت: “معلش لو كنت زنقاكي في المكان”، ابتسمت لها وأخبرتها أنني مرتاحة في جلوسي هكذا، ثم دخلت معي في حوار استمر طوال الطريق، ظلت تحدثني عن حياتها وعن أبنائها، وأن لديها ثلاثة أبناء، بنتين والولد أصغرهم.
لم تحدثني عن البنتين بقدر حديثها عن الولد، ومدى حرصها على تعليمه ورغبتها الشديدة بأن يصبح شخص ذا قيمة وقامة في المجتمع، ومدى حرصها على أن يحفظ كتاب الله، وأنها تتابع دروسه وكُتابه بدقة شديدة، وأنها تعمل ليل نهار حتى تستطيع أن توفر له كل ما يريده.
سألتها لماذا لا تفعلين ذلك مع البنات أيضًا؟ ردت قائلة: «والبنات كمان.. بس هو عندي أهم، ده حنين عليا أووي، وكمان شاطر». دعوت الله بأن يحفظه لها ويبارك فيه.
ثم عدت لأسألها عن البنتين مرة أخرى، ولكن الطريق كان قد انتهى وأخرجنا السائق من حديثنا بجملة: «حمد الله على السلامة يا جماعة.. وصلنا»!.
يا أم عبد الرحمن كنت أتمنى لو أن الطريق والوقت طال بنا أكثر من ذلك، كنت أخبرتك أن ابنتيك لا تقلان أهمية عن ابنك، وأن نجاحهما وتفوقهما سيحققان لكِ الفخر والتباهي أيضًا، وأن حرصك على تعليمهما ونجاحهما يجب ألا يقل أهمية عن حرصك على تفوق ابنك ونجاحه، وأن نجاح عبد الرحمن وتفوقه سيضيف لمجمتعنا شخصا جديدا ناجحا، ولكن تفوق ابنتيكِ سيصنع لنا أمة ناجحة وواعية ومسؤولة.
يا أم عبد الرحمن ويا كل أم عبد الرحمن، يوجد مقولة عظيمة مؤداها: «أن تربي ولدًا فأنت تربي فردًا، ولكن أن تربي فتاة فأنت تربي أمة».